منذ أن هُجر في وقت ما من القرن التاسع عشر، وحتى عشرين عاماًٍ مضت فحسب، كان مجرّد «خربة» في بادية النبك يأوي اليه رعاة الماعز مع قطعانهم التماسا للدفء وقت القرّ أو للظل وقت الحرّ. وهكذا استهلكت الاخشاب التي كانت تحمل السقف وقودا للتدفئة، في حين أسهم دخانها في تغطية اللوحات الجدارية الرائعة التي تغطي أروقة الكنيسة الثلاثة. أما اليوم، ومع ان أقرب مدينة منه، وهي مدينة النبك، تبعد عنه نحو 17كم، فدير مارموسى معلمٌ سياحيٌ مميّز: سواء على الصعيد المحلي حيث يقصده سكّان النبك بشكل خاص ولاسيما في جُمُعات الربيع والصيف للزيارة وتمضية النهار في الهواء الطلق، أو على الصعيد القطري إذ يندر يومٌ من أيام السنة لا تُرى فيه، في الساحة الكبيرة المخصصة لوقوف المركبات على اختلاف أحجامها، عدّة باصات صغيرة (سرافيس) أو كبيرة أو حتى بولمانات حديثة، هذا عدا السيارات الخاصة اتية كلها من كل مناطق وانحاء سورية.. أما على صعيد استقبال السياح الاجانب فدير مارموسى بات واحدا من الاماكن التي يأتي بعض السياح، ولاسيما الاوروبيون منهم، الى سورية من أجل زيارته بالدرجة الاولى، واحيانا من أجل زيارته فقط. وهو مصنّفٌ، في الدليل الازرق الفرنسي عن سورية Guide bleu de Lasyrie، (وهو الدليل الذي يحمله معهم السياح الفرنسيون الذين يزورون سورية) كمركز سياحي من ثلاث نجوم أي ما يوازي أهمية قلعة الحصن على سبيل المثال. إن أهم ما في الدير، من الناحية الآثارية، هو اللوحات الجدارية التي تعتبر الافضل حفظا وترميما (انتهى العمل في ترميم هذه اللوحات منذ عام تقريبا) من نوعها في الشرق الاوسط والمنطقة. لكن اللوحات الجدارية ليست كل شيء من الناحية السياحية، فثمة سحر فريد من نوعه في طبيعة الموقع وفي هدوئه وبعده عن ضجيج المدينة وفي هواءٍ نظيف عليل، وفي طبيعة الحياة التي تُعاش فيه، وفي اجتماع لأقوام من شتى البلدان والاجناس والاديان حيث ان الدير نفسه يصبح ملتقى عفويا للشرق والغرب وللمسلمين والمسيحيين وللكبار والصغار وللصبايا والشباب ومحلا لحوار الحضارات يفوق الكثير من المراكز التي تعمل، في أماكن كثيرة من العالم، في هذا الاتجاه.
يقترن تاريخ الدير باسم القديس موسى الحبشي الذي تروي الاسطورة الشعبية المتداولة انه كان ابنا لأحد ملوك الحبشة في القرن السادس. ترك حياة الترف وفرّ من والده الذي أراد ان يزوجه وأتى ليعيش في دير مار يعقوب المقطع القريب حاليا من قرية قارة التابعة لمحافظة ريف دمشق. لكنه رغب بمزيد من التوحد والنسك فيما بعد فقادته خطاه الى هذا المكان حيث أقام في أحد الكهوف، وكان ذلك فاتحة الحياة الرهبانية في ذلك المكان المقفر من البادية. هُجر الدير نهائيا عام 1831 ليتحوّل مع الوقت الى ملاذ للرعيان والقطعان، الى ان أُعيدت اليه الحياة كما أشرنا منذ عقدين من السنين.
هيكلية الدير
يتألف الدير حاليا من البناء القديم الاساسي الذي يرجح انه كان برج مراقبة عسكري روماني قبل ان يأتي موسى الحبشي الى المكان. ويحوي هذا البناء الكنيسة التي يعود بناؤها الى العام 450 للهجرة 1058 للميلاد كما تظهر كتابةٌ عربية لاتزال واضحة على أحد حجارتها اضافة الى غرف متنوعة السعات والاستخدامات وباحة نُصِب فيها بيتُ شعرٍ على الطراز البدوي يُشعر المرء انه قد عاد عقودا كثيرة الى الوراء، ومن بناءين جديدين، أحدهما مكتمل ويُستخدم كغرف نوم للزوار والرهبان على السواء، والاخر لايزال قيد البناء وسيشتمل في نهاية الامر على كنيسة صغيرة هي في الاصل كهفٌ متطاولٌ حفرته الطبيعة في عمق الصخر، وعلى قاعة للقاءات والندوات اضافة الى غرف اضافية للنوم وخدمات اخرى.
يحدث ان يشعر الزائر للمرة الاولى، ولاسيما الزائر العابر الذي لا يلبث طويلا في المكان بمشقة العيش وصعوبة الحياة في مثل هذا المكان المنقطع البعيد الخالي من الكثير من أسباب الراحة والرفاهية. لكنه إن يبقى مدة أطول فلسوف يختبر على الاغلب مشاعر اخرى من الراحة النفسية ومن السكينة والهدوء. فرهبان الدير وزواره الذين يشاركونهم حياتهم لساعات احيانا أو لأيام في أحيان كثيرة أو حتى لأشهر في بعض الحالات، يعيشون حياة بسيطة غير متطلبة قريبة، قدر الإمكان، من الطبيعة، وتتوزع نشاطاتهم في ثلاثة اتجاهات: العمل والذي يتضمن اشغالا كثيرة بدءا من رعي وحلب الماعز وانتهاء بكتابة المحاضرات
وتحضير الندوات وترجمة الكتب ومرورا بأعمال البناء على اختلافها وبأعمال البيت على قدر تنوعها وتعددها. واستقبال الزوار فالزائر الذي يقضي بضعة أيام في الدير يصبح كواحد من أهله يشاركهم استقبال الزائرين العابرين وتقديم الضيافة والطعام لهم حسب مدة زيارتهم وشرح تاريخ الدير والرسومات الجدارية في الكنيسة، الخ.. والصلاة والتأمل ولاسيما في فترة بعد الظهر والمساء حيث يلتزم الجميع الهدوء ويلتزم المسيحيون من الزائرين بالصلاة مع جماعة الدير بينما يمكن لغير المسيحيين ان يفعلوا ما يرغبون القيام به في جو من الهدوء واحترام الصمت. وهكذا فإن حياة شديدة الغنى والتنوع والفرادة تُعاش في مكانٍ كان منذ وقت قريبٍ خلواً من الحياة.
عشرون عاما، بل أقل، كانت كافية كي تتحول خربة في بادية الى مركز اشعاع روحي وثقافي وحضاري والى مكان جذب سياحي كبير والى محل يعج بالحياة بكل أبعادها. لاشك في ان ذلك تطلب الكثير من العمل، الكثير من التعب، جهود اشخاص كثيرين، جهودا فكرية وعضلية وجهودا من كل نوع.. ومع ان اشخاصا كثيرين عملوا على ان يصبح هذا المكان ما هو إياه اليوم، بعضهم وضع حجرا ومضى وبعضهم ما زال يعمل منذ سنين.. بيد أن رجلا واحدا كان ولايزال يقف وراء كل شيء، وهو الأب باولو دالوليو (آمل ان تكون تهجئتي للاسم صحيحة، وعلى كل حال فلقد وردت هكذا في شهادات التقدير والشكر التي نالها الاب باولو من وزارة السياحة في عيد السياحة العالمي عام 2003 ومن وزارة الدولة لشؤون البيئة بسبب مبادراته الكثيرة ولاسيما فيما يخص مشروع محمية وادي مارموسى) الذي مع كونه ايطالي الجنسية فهو يتحدث، كأهلها، لهجة سكان النبك، اضافة الى طلاقته في العربية الفصحى. وهو الى ذلك يحب ان يتكنّى باسم بولص وان يدعوه الناس بهذا الاسم، وهو اللفظ العربي المقابل لاسم باولو الايطالي.
جاء بولص (الأب الدكتور بالو دالوليو) سورية للمرة الاولى في منتصف السبعينيات وزار خربة وادي مارموسى أول مرة عام 1982، حيث قضى أياما من الخلوة والرياضة الروحية في أحد الكهوف المجاورة. منذ ذلك الوقت بدأت فكرة إحياء المكان تجول في خاطره وفي صيفيات الاعوام 1984 الى 1991 نظم الأب بولص حملات تطوعية للبناء والترميم شارك فيها شبّان سوريون وايطاليون كان بولص خلالها أول من يحمل الحجارة بيده ويجبل الاسمنت وآخر من يتعب ويكفّ عن العمل في آخر النهار. واستمر العمل بعد ذلك ولكن بشكل أكثر تنظيما بعد ان تأسست جماعة رهبانية تقيم على نحو دائم في المكان. منذ ذلك الوقت والدير يُبنى ويزداد اتساعا ويفتح للمنطقة وابنائها، بل ولسورية كلها آفاقا متجددة.. فوراء مشروع المحمية البيئية لوادي دير مار موسى، ووراء الندوات المتكررة التي تجمع جنبا الى جنب مفكرين ومثقفين وشيوخا وكهنة، ووراء مشروع التشجير الرعوي وغير الرعوي ووراء استقبال الراغبين بالخلوة والرياضة الروحية ووراء ضيافة السياح العرب والاجانب ووراء صيانة وترميم آثار الدير والحفاظ عليها، ووراء اشياء اخرى يعرفها القليل من الناس كرعاية الكثير من العائلات الفقيرة مثلا، تقوم جهود اشخاص كثيرين يقف في مقدمتهم ويوجههم ويقودهم رجل عمره خمسون عاما هو الأب الدكتور بالو دالوليو، أو: الراهب بولص.
أديب الخوري
web Site: www.deirmarmusa.org
Email:deirmarmusa@mail.sy
Tel: 00963 11 7420403
مواضيع ذات صلة
دير مار موسى الحبشي في سوريا يفوز بجائزة أورومتوسطية